
French Fries_58081 🇪🇬
منذ 3 أيام
.
شعور وحيد
بعد خذلاني الجسيم في شهادة الإعدادية، وخضوعي المهين للانخراط في الجحيم المسمّى بالثانوية العامة، قدّمت أوراقي إلى المدرسة الثانوية القريبة من منزلي في منتصف عام 2019 تقريبًا. وحينها كاد عقلي أن يتيه، إذ لم أكن مصدّقًا حتى آخر لحظة أنني سألتحق بها. ما زلت أذكر أول يوم دخلت فيه المدرسة أثناء فترة التقديم؛ أول ما فعلته هو أن بصقت على أرضها. وهذا تمامًا ما فعلته في آخر يوم لي فيها. بدأت الدروس المقيتة، وبدأ معها العام الدراسي الكئيب، ودخلت حينها عالَم الثقافة. نعم، لم أعر الدروس أي اهتمام يُذكر طوال المرحلة الثانوية، إلا بالقدر الذي يكفيني للنجاح فقط، وذلك كان بإرادتي، إذ كنت منشغلًا بما هو أهم: التعلّم الذاتي. فلم أترك محاضرة قيّمة بالعربية أو مترجمة إلا شاهدتها، ولا كتابًا أو رواية مرّت بي دون أن أقرأها. بدأت بالنبش في التاريخ والفيزياء – إذ كنت مغرمًا بهما – ثم عرّجت على الأدب والشعر والفنون، وتوغلت في أمهات الكتب، أتأمل كيف كان يفكّر الأقدمون. منذ بداية الثانوية، انقطعت عن مشاهدة التلفاز، باستثناء برنامج "العباقرة" الذي أحببته كثيرًا، لكنني لم أرغب يومًا في المشاركة فيه – وكان ذلك من الغرور – فقد كنت أرى أن مستواي أرقى من أن أُجالس أيًّا من المشاركين أصلًا. أذكر أنني قرأت ما يزيد عن خمسمائة كتاب، واطلعت على أكثر من ألف، وكان يوتيوب يستهلك حزمة الإنترنت الشهرية كاملة. لا أذكر أنني كنت أتابع حينها شيئًا تافهًا أو هزليًا بكثرة. ومن نتائج تشغيل ذهني المتواصل، أن قلمي بدأ يتحرّك، فكتبت خلال تلك السنوات ما يزيد عن ألفي صفحة خارج نطاق الدراسة – إذ لم أكن أكتب كثيرًا في المدرسة، ولم أكن أحفظ أيضًا، رغم أنني كنت في الشعبة الأدبية! اكتشفت حينها أمورًا في تاريخ الأمم والحضارات، وبعد تحليلها مستعينًا بالعلوم الحديثة، غيّرت كثيرًا مما كنت أعتقده مسلّمًا. انجذب قلبي إلى التصوف الإسلامي الفلسفي، نتيجة تأثير بعض كتابات الدكتور يوسف زيدان، وتوغّلي بلا حذر في كتب الصوفية الكبرى، حتى اقتربت من مذهب وحدة الوجود. في تموز 2021، كتبت أول مقال طويل في حياتي، عن إحدى الشخصيات المبكرة في الفلسفة الإسلامية. وما زلت أذكر قطرات العرق على جبيني بعد ثلاث ساعات قضيتها في كتابته، جالسًا في مطبخ بيتنا المتواضع. وفي العام ذاته، هدأ ضجيج عقلي قليلًا، فتواضع لساني، وبدأ قلمي يجف، بعدما تعمّقت في شبكة الإنترنت، وتعرفت على كثير من التطبيقات، علمًا بأنني في أول عامين لم أكن أستخدم سوى جوجل ويوتيوب فقط! بعد أن كنت أعيش في برج المثالية العاجي، سقطت بقوة على صخرة الواقع المادي، وبدأت أؤمن تمامًا بالعلم، ولم تَبقَ داخلي مساحة تُذكر للمطلقات. حدث ذلك بعد رحلة بحث طويلة، واطلاعي النهم على آلاف المقاطع والمحاضرات والندوات بمختلف التوجّهات. لن أذكر أسماءهم، لكنني لن أنساهم ما حييت، فبعدهم أدركت كم كان فكر مصطفى محمود – الذي كان أول من قرأت له – سطحيًّا وبسيطًا بالمقارنة مع العمالقة الذين وقفت على أكتافهم. وقبيل امتحانات الثانوية العامة، كان لا بد من الاستعداد الجاد، فشرعت في المذاكرة رغم ثقل الأيام وطولها، لكنني لم أكن مكترثًا كثيرًا، فقد كانت راحة بالي أهم، كنت أستمع إلى الأغاني الأجنبية الهادئة قبل الامتحانات، وأحاول أن أبتسم وسط نوبات الصراخ والانهيار. يوم ظهور النتيجة، كنت أستمع إلى المهرجانات بسماعات الأذن، بينما كانت أمي تبحث عنها برقم الجلوس، وكنت أنظر إليها وأضحك بسخرية... لماذا كل هذا؟ 66٪ لم تكن النتيجة مرضية لها، لكنها كانت مُرضية لي. فقد عقدت العزم على الالتحاق بكلية الآداب، مثل العظماء، لأدرس الفلسفة... كي أتحرر. وقد كان، ولكن بعد معاناة بيروقراطية لا داعي لذكرها. كانت توقعاتي عالية حين دخلت الجامعة، ولم يتحقق منها شيء تقريبًا، سوى أنني غادرت المدرسة اللعينة، وتحللت من قيد النظام التعليمي الفاشل. حينها، لم أعد أصف نفسي بالباحث أو المثقف أو العبقري، بل فقط: إنسان، قارئ، مُحب للمعرفة، عاشق للفلسفة. والآن، بعد مرور ثلاثة أعوام أخرى، للأسف لم أُنمِّ عقلي كما كنت أفعل سابقًا، لكنني اكتسبت معارف حياتية أخرى: عرفت طعم اللذات الجسدية، وتعرفت على كثير من الأوباش، وتهشّم قلبي عدة مرّات. اكتئبت. وتخطيت سنّ الواحدة والعشرين... ذلك السنّ اللعين الذي كنت أظن أنني لن أبلغه يومًا. ماذا فعلت في حياتي؟ لا شيء. لقد قضيت سنوات مراهقتي في كل هذا، يا عزيزي. والآن بدأ عمر الشباب... لكن بلا مال، ولا واسطة، ولا أمل.
1
0